دايفد تيشاوت: من “التعبيرية التجريدية” إلى الصفاء الشكليّ

القنان دايفيد تيشاوت

David Teachout القنان دايفيد تيشاوت

لا المسار الشخصيّ، المهنيّ  الفريد الذي اختطه دايفد تيشاوت(ولد عام 1933) طيّاراً في الجيش الأمريكي حتى عام1950، وتدرُّبه على رعب القنابل النووية، ودراسته وتدريسه للديكور، ولا المواقف المعارضة للحروب، خاصة حرب فيتنام، كافية لتفسير مساره التشكيليّ، والصفاء الشكليّ التجريديّ الذي تتسم به لوحاته منذ وقت مبكر.
وإذا ما شكلت “التعبيرية التجريدية” خلفية قوية للفنان منذ عام 1963، فإنه يتوجب فهم الدوافع البلاستيكية والسياقية لهذه الحركة من أجل فهم المسارات اللاحقة التي تمخضت عنها في أعمال فنانين أمريكيين، تيشاوت من بينهم.
لم يستطع الفنانون الأوربيون، السورياليون خاصة، المقيمون في أوربا من سنوات الأربعينيات مثل  أنريه ماسون André Masson وروبيرتو ماتتا Roberto Matta توطين حَرْفيّ محض لخبرة ومعطيات السوريالية أو التكعيبية مثلما اختُبِرتْ وأُنجزِتْ في القارة الأوربية. كان الفنانون الأمريكيون يستلهمون من تلك الخبرات أمراً جديدا، وشكلت بالنسبة إليهم محرّكاً داخلياً، نجمت عنه تجارب مختلفة حاولت المزاوجة بين ما لم يُفكِّر الرسّامون الأوربيون إلا قليلاً بمزاوجته: “التعبيرية” التي ظن البعض أنها صارت من إرث الماضي القريب، و”التجريدية” التي صارت راسخة الجذور في التجربة التشكيلية العالمية.  من هذين القطبين طلعت بشكل أساسيّ مدرسة نيويورك école de New York، طريّة، مثقلة بمقترحات جديدة سيكون لها فيما بعد تأثير كبير على الفن المعاصر في العالم. لقد انقسم فنانو مدرسة نيويورك إلى اتجاهين شكليين متكاملين وإن ظهرا متفارقين: رسم إشاري gestuelle ورسم أقرب للنزعة الهندسية. الأول اقترَحَ، انطلاقاً من المفاهيم النظرية، في الأقل، للاوعي والآلية السوريالية “فعل الرسم action de peindre” موضوعا لفن التصوير، حيث سيكون للجسد الآدمي الذي يقوم بعملية الرسم عبر وضعيته الفيزيقية في لحظة الخلق وإشاراته وهواجسه غير المرئية، دور حاسم. وأبرز من يمثل هذا الاتجاه بالطبع جاكسون بولوك Jackson Pollock عبر تقنية التقطير dripping التي تُلخِّص هذه العلاقة مع المعالجة الإشارية، كما لدى رسّامين مثل وليام كوننغ Willem de Kooning وفرانتس كلين Franz Kline وهانز هوفمان Hans Hofmann وروبيرت ماثيرويل Robert Motherwell، مع فوارق أسلوبية شخصية كبيرة.
عندما كان دايفد تيشاوت عام 1963 يرسم أوائل أعماله التعبيرية التجريدية، كان بولوك قد قدّم عام 1942-1943 مقترحات أولية لتجربة التقطير، ستتطور منذ منتصف الأربعينيات والخمسينيات في لوحاته المعروفة اليوم. أعمال دايفد تيشاوت الستينية ليست في المسار الشكلي والتقنيّ نفسه، وتنحو، على المستوى الكروماتيكي باتجاه العجينة اللونية pâte الموضوعة بشكل كثيف ومسطَّح على السطح التصويري.

الأحمر الممتد 1963, دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات

أما الاتجاه الآخر، الهندسيّ بدرجاتٍ، في مدرسة نيويورك فهو التصوير على مساحات ملونة  (color field painting) حيث الإصرار على تنفيذ أعمال أحادية اللون monochromes تقريبا، لا علاقة لها بعد إلا بعلاقات لونية مُحْكَمَة، وليس العالم الموضوعيّ، حتى لو تمثلت مفاهيم محددة، كونية وصوفية. كان يمثل، بشكل خاص، هذا التيار مارك روثكو Mark Roth وبارنيت نيومان Barnett Newman وكليفورد ستايل Clyfford Still.

titled-oriental-card-games-7

لعبة الورق الشرقية 1967-1968 , دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات

 سيتموضع عمل تيشاوت بين هذين القطبين الجوهريين، طيلة مسيرته. أعماله في سنوات الستينيات هي مسعى لأمرين: التملُّص النهائي من بقايا التشخيصية، أي الهجر النهائيّ للأثر المحاكاتي الخفيف، من جهة، ومن جهة أخرى، هي تمرين على الهندسيّ المُصفّى من كل شائبة. ففي سلسلة أعماله اللاحقة “لعبة الورق الشرقية ” 1967-1968 زيت على القماش) ثمة انسلاخ كامل إلى تجريدية هندسية لا يمكن أن تُفهم بدقة من دون معرفة أنها مستلهَمة من ألعاب ورق الشرق الأقصى: هناك لعبتا ورق، الأولى يابانية على بطاقاتها صور وعبارات شعرية أو قصائد، مع جسرين (تسمى.  والثانية تسمى هانافودا لعبة أو حرب الزهور، حيث على البطاقات صور زهور الفصول، وتُلعب في هاواي أيضا، ويمكن أن يكون الرسام قد تعرف عليها أثناء إقامته هناك. وهي مزينة بأسلوب الفن الصينيّ. سلسلة لوحات الرسام تقوم على أساس شبكة من المربعات التي وقعت معالجة كل واحد منها بدرجات لونية مختلفة، بحيث يمنح مرآها العام الانطباع أننا أمام نسق هارموني  متماسك.

من سلسلة السوكل (منطقة في كاليفورنيا) دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات

يتخلى الرسام في سلسلة السوكل  عن الشبكة، ويصير المربع مبدأ أيقونياً جوار الخطوط العمودية المستقيمة التي تثير في بعض الأعمال ذكريات الفن البصري. وإذا ما تعلق الأمر بقرية سوكلفي كاليفورنيا، فبإمكاننا الافتراض أن المربع هو محض تجريد لعنصر معماري من المنطقة، أو تكثيف تجريديّ لمشهد معماري فيها. أحيانا يظهر خليط من الأزرق والبني الفاتح والأمغر المنطفئين كأنها، دون أن نكون متأكدين، إحالة إلى مادة زجاجية معمارية أيضاً. الأكيد أن فعل الرسم هو الشاغل الحقيقي للرسام، وإن المنحى الذي يتجه إليه يذهب إلى الجوهريّ الواقع، هذه اللحظة، في الشكل الهندسيّ المختلط مع اشتغال كروماتيكي مدروس بعناية.

 

أعمال التقطير, دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات
لكن الرسام يعود بين الأعوام 1972- 1974 إلى التقطير، كأنه يبرهن لنا أن تأرجُحه بين القطبين المؤثرين المذكورين، كامن بعمق في مكان عميق من ذاته. إن تسمية “التجريدية التقطيرية” هي العنوان العريض الذي يختاره تيشاوت لأعمال هذا العام. لكن هذا التقطير ينطوي بغموض على جميع العناصر الشكلية السابقة التي اشتغل عليها الفنان، ولا يتابع تجارب روّاد التقنية الذين كانوا فيها يضعون للإشاري مكانة كبيرة، لأن بعضهم كان يمارس نوعا من التناضد اللونيّ، الخارج من التقطير وحركة أجسادهم في آن واحد.
لو فهمنا الإشاري بمعنى كثافة حضور الفعل الفيزيقي للرسام وانطباعه الخفيّ في لوحته، فإن تقطير تيشاوت يمنح للإشاري كثافة أقل، وأكاد أقول حضوراً محسوباً، إذ أن سيلان اللون من الأعلى للأسفل في الغالب في جل لوحات هذين العامين، يعني أن الإشارة jeste كانت مقتضبة ومحسوبة من أجل أن تمنح تأثيرات معينة: خلق خطوط متوازية. إذا كانت خطوطه الهندسية المتوازية في الأعمال السابقة تمتاز بالصرامة، فإنها ترتجف هنا ولا تذهب نحو مساقطها الشاقولية المحتّمة، بل ترقص في الفضاء التصويري، وتخلق نوعاً من النظام الفوضويّ الذي هو الاسم الآخر للبلاستيكية. في هذه الأعمال ثمة محاولة للسيطرة على الصدفويّ وتطويعه لرؤية الفنان المقيمة.

David Teachout ( 1933- ) American artist

نافذة , دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات

سوف ينحدر تيشاوت من المنظر الكلي إلى الجزئي في أعماله التي تحمل العنوان (نوافذ Windows) 1983-1984. هنا ثمة قطيعة ضمن هذه الاستمرارية القطبية. وثمة في الغالب عودة إلى النزعة الهندسية التي تقطع فجأة من تجربة التقطير السابقة. عنصر واحد يبرز في هذه السلسلة من اللوحات، يعزز بقوة الاعتقاد أن بعض عناصر سلسلة السوكل كانت تقع في النافذة ولا شيء سواها. لقد كانت النافذة هناك غائمة ومغيَّبة المعالم قصداً. هنا تحضر النافذة وحدها بصراحة، في الأقل عبر العنوان الممنوح، لكن الأعمال نفسها قد تقول إن هذا الموضوع ليس سوى ذريعة لعملية الرسم. عموماً يقدّم تيشاوت، بين الأمغر (الأوكر) والأزرق، دراسة للفضاء التصويري الذي يتخذ من النافذة منطلقاً له. تصير النافذة “جغرافيا تشكيلية” يضع فيها الرسام خبرته الأكاديمية، وتجربته العملية المتعلقة بهندسة عمارة البيئة Landscape Architecture (بالفرنسية L’architecture du paysage). النافذة هي البيئة كلها. أنها تضمّ نوعاً من “تخطط معماريّ” يستجلب جماليات المدينة بكاملها.  إنها موقع site مثاليّ لفن الرسم وبيئة environment للرسام، وهي تمنح المناسبة الثمينة حتى لانعكاس المخططات المدينية urban البعيدة على زجاجها. لكنها قبل ذلك كله، وبالتوازي معه، سطحٌ تصويريٌّ عليه كل معضلات الرسم المخصوصة وهواجسه ومفاهيمه.
بألوان أقل توهجاً، يمضي الرسام  بتجربته في سلسلة سانت كروز (The Santa Cruz Series) الممتدة بين الأعوام 1984-1989 والموصولة تلقائياً بالسلسلة السابقة، موسِّعاً من حقل الرؤية وهو يقلب هذه المرة بشكل ديالكتيكي أولوياته فينطلق من الجزئي إلى الكلي، مستحضرا دائما خبرته في عمارة البيئة. هنا ثمة انعكاس ضوئي خافت واقع على عناصر معمارية وبيئية ومدينية بالأحرى، نحدسها ونتخيلها ولا نراها صريحة. بعضها مناظر طبيعية تخلصت من جميع ما يمنع من رؤية طابعها الجوهريّ ومن تلمُّس الألوان القليلة المسيطرة عليها، هذه اللوحات تحديق طويل واختصار لتفاصيل طبيعية أو معمارية وقعت عين الفنان عليها، فظل يصفّي ألوانها إلى الأساسيّ، ويعيد خاصة تركيب درجات هذا الأساسيّ على سطح هندسي منتخَب يمتاز أحيانا بالتناظر المكتمِل مرة، وغير المكتمل مرة، وبلعبة انعكاس المرآة. لعبة المرآة والتناظر هذه، مشغولة باللونين الأزرق والأخضر الموضوعين بحساسية على يد تيشاوت. ومن أجل إطفاء الهندسية الرياضية أدمج الرسام بعض الخطوط lines والخطوط الخارجية outlines الحرة في ثنايا الأعمال.

 

من مجموعة سانتا كروز ,مجموعة متحف فرحات

بين هاته المحطات الكبرى في عمل الرسام الأمريكي ثمة محطتان أخريان تتوجب الإشارة إليهما: سلسلة الدائرة
The Circle Series عام 1968، وسلسلة الموج والرياح 1985. السلسلة الأولى تتميز باكتمالها الهندسي وإحالاتها لمعاصري الرسام ومجايليه أو أسلافهم الأوربيين الأقدم قليلاً (كاندنسكي، دولوني). والسلسلة الثانية بقلقها البحثيّ. أحسب أن تيشاوت يسعى إلى التنبيه إلى أن الدوران المحوري الأزليّ للدائرة يمكن أن يتزحزح عبر قوة موجِّهة vector: اللون، وهذا الأمر قد يذكر بتحليل كاندينسكي للعلاقة بين الشكل واللون، لكن السلسلة، حسب رأيي، تتبقى في إطار التجارب الدائبة التي كانت تتلمس النتائج التي توصل إليها تيشاوت لاحقاً، وفيها لا نرى في الحقيقة حضورا للدائرة. بينما سلسلة الأمواج والرياح، فإنها تود تفكيك الحركة التماوجية إلى عناصرها الأولى عبر رسومات صارمة قام بها الرسام (تتشابه مع الرسوم المقدَّمة عادةً لشرح فكرة “زمكان” النظرية النسبية) ثم إلى العناصر الأكثر انفلاتاً، كالغيوم التي تقوم على تكرار عنصر طافٍ بعينه. كلا السلسلتين تشتركان، رغم تباعدهما في الزمن، ببحثهما عن مفهوم وتفكيك الحركة بإطارين شكليين متفارقين.
أن نتائج سنوات نهاية الثمانينيات تستثمر هذه الاختبارات كلها، وتضعها في إطار صار شخصياً، يتميز بالرصانة والتعقيد، والصوت الخافت العميق، سواء على المستوى الكروماتيكي أو مستوى الموضوعات المُنتخَبَة كذرائع لفعل الرسم. يبدو هذا الفعل جذريا بالنسبة للرسام قبل أي أمر آخر، ألا تراه يقول عام 1983: ” هناك فكرة عن الرسم، ثم هناك هذه الرسم. الرسم لا يمكن أن يكوْن هو الفكرة عنه، ولكن يجب أن يصبح تجسيداً وتعبيراً وتمظهرا مادياً للإلهام الأصلي”*
 *
[ There is the idea about the painting, and then there is the painting. The painting cannot be the idea about it, but must become an embodiment, and expression, a physical manifestation of the originating inspiration.] David Teachout
Advertisement

قراءة في أعمال رؤوف رفاعي

قراءة في أعمال رؤوف رفاعي

 شاكر لعيبي

رؤوف رفاعي, مجموعة متحف فرحات

رؤوف رفاعي, مجموعة متحف فرحات

 

ربما لا يقبل العمل البلاستيكيّ لرؤوف رفاعي  التصنيف الجاهز، فهو يستمتع بالرسم على الحوامل التقليدية كما  ينهمك بالتنصيبات المفومية، وهو يتقلب سعيداً بين التشخيص والتجريد. رغم أنه يبدو أكثر سعادة في أعماله التشخيصية، مثل مجموعته الدراويش. يمكن ملاحظة أن أعماله التجريدية تبقى تحتفظ بالتكوين نفسه والتوزيع المشابه للكتل والأشكال والهيئات التشخيصية بحيث يبدو وكأنه قام بتلخيصٍ وتنقيةٍ لها لكي لا تحتفظ إلا بالجوهريّ التشكيليّ.

أعماله التشخيصية الحرّة يمكن أن تندرج تحت المفهوم العميق للطرفة anecdote، ويمكن قراءتها عبر مساءلة هذا المفهوم، بالعودة إلى الأصل اليوناني للمفردة. وهي تتكون من بادئة نافية (α) وكلمة (εχδοτος). إنها تعني إذنْ غير معروف، غير منشور بالأحرى. لكنها تُستخدم بمعنى خصوصية تاريخية أو سمة أخلاقية أو سلوكية مميَّزة، وبصفتها تفصيلاً ثانوياً لفعل من الأفعال، وبمعنى قصة سريعة مرويّة بروح الطرافة، تُحفظ بسهولة لأنها تخاطب المشاعر والفكاهة والرعب، لذا سهلة النقل شفاهياً. كأننا بهذه التعريف للطرفة المستل من قاموس مشهور نتحدث حرفياً عن غالبية أعمال رؤوف رفاعي.

رؤوف رفاعي , مجموعة متحف فرحات

رؤوف رفاعي , مجموعة متحف فرحات

في الفكر تذهب الطرفة، إذا لم تُستخدم بمعنى الأمر المبتذل العاديّ، إلى معنى المفارَقة paradoxe التي تشعّ بالدلالات. وبهذا المعنى نستخدمها في توصيف أعمال رفاعي. وعلينا في هذا السياق التفريق بين استخدامنا الحالي (للطرفة) ومعنى (الطرافة)المألوف.

إن أعمال “الدرويش” نوع من طُرُفات متكرّرة تودّ التلميح عبر مفارَقة ما، إلى التباسٍ داخليّ أشبه بالطرافة. ففي حين أن الفكرة المألوفة عن “الدرويش” تمنحه هالة صوفية وحالة انجذاب رفيع، وتثبّت له صورة لا مزاح تقريباً فيها، وفي الاستخدام الشعبي توطّن مفاهيم الطيبة التي تصل حدّ السذاجة، فإن الفنان يفكّك هذه الصورة، يبعثرها، يركّز على تفاصيل (مريبة) فيها أو دالة أو تتسم بالمبالَغة، يضخّمها، ويشدّد على ملامح بعينها، وأحياناً يسخر من بعضها.

يعزز هذا المنحى استخدامه للألوان التي تصير، في مرات عديدة، صارخة، صريحة، بل وحشية إذا أمكن القول، وبملامح غرافيكية (رسم Dessin) ذات خط خارجيّ قويّ، وأسلوب طفوليّ أو بملامح فطرية متعمّدة. بهذا تمتزج في أذهان المتلقي المرجعبات وتختلط، سواءً من الناحية التلوينية أو الأسلوبية، وتنصهر كلها في إرادةٍ شخصية بأن يُنشأ الفنان عالماً غرائيبياً، حتى لا نقول غريباً، مكوَّناً من كائنات تشترك بنزوعها الباطنيّ (الأيزوتيريكي ésotérique) المخادِع، لكأنها استعراض خارجيّ لأمر جوانيّ لا يُستعرض للملأ في العادة.

Raouf Rifai (3)

رؤوف رفاعي, مجموعة متحف فرحات

من هنا يمكن أن تكون هذه الطرفة نوعاً من نقد ثقافي ملتزم بالشرط التشكيليّ، ومُنجَز وفق دفقٍ عاطفيّ وشعوريّ، وسرعة في الإنجاز بالأكريليك، وذلك من أجل الاحتفاظ بحرارة الاندفاعة العاطفية الأولى. لكن هذا الأمر يمكن أن يكون أكثر توصيفاً للوحات الدرويش التي تنبني على عنصر واحد أو عنصرين اثنين، وتتميز بالتتقشف التكوينيّ والكروماتيكيّ، وهي كلها تندرج في إطار غير المُنجَزinachevé  عمداً. وهنا مفهوم آخر يمكن أن يكون مفتاحاً آخر لقراءة أعمال رفاعي. نعلم أن غير المكتمْل (أو غير المُنجَز) قد صار منذ أعمال الانطباعي إدغار دوغا أواخر القرن التاسع عشر، ضرباً من قاعدة لجماليات الفن الحديث ثم الفنون المعاصرة. ولعل عبارة جان مارسيل Jean Marcel: “يكمن الجَّمال في كل ما هو غير محدّد وفي غير المُعرَّف، وهنا يقع السبب بأن الأطفال الغامضون دوماً ، هم دائما جميلون. يقع الجَّمال في كل ما هو غير مكتمِل”[1]. الكثير من أعمال رفاعي، خاصة الدرويش، تقع في غير المكتمِل من المناحي كلها، ولأسباب تتعلق بمشروعه ومفاهيم مشروعه التي تقتضي الاختصار والسرعة واقتناص الانطباع الأولي وتمثيل أكبر قدر من أنماط الدراويش.

 

إن لوحات الدراويش التي تتشكل من أكثر من عنصر واحد أو اثنين تبدو، فلأقل، أكثر اكتمالاً، بمعنى أنها تتمسك ببنية بلاستيكية بديهية، غير منفلِتة، وتكوين أكثر تدقيقاً، وتحتفظ بتوازنات داخلية تجعل من الفضاء (لأننا لا نفضّل مفردة الفراغ الفارغة) مناسبة لأن يحضر بصفته عنصراً بلاستيكيا جوهرياً، كما أنها مشغولة بقدر أقلّ من الاندفاع، بحيث أنها التمّتْ على نفسها، وخياراتها، والتبستْ طُرُفاتها حتى صارت تتأرجح بين المرارة والقسوة والطرافة السوداء، بينما وقع الاشتغال على ألوانها بتمعُّن ضمن تقنيات شخصية وحسّاسية مشذّبة إلى حد بعيد، خاصة  تلك التي يطغى فيها اللون الأحمر والألوان الحارة عموماً.

 

رؤوف رفاعي , مجموعة متحف فرحات

رؤوف رفاعي , مجموعة متحف فرحات

إن تنصيبات رفاعي، لا تبدو للوهلة الأولى وهي تمشي بالتوازي مع عمله التصويريّ. ينطلق الفن المفاهيميّ كما نعلم من الفكرة ويفضّلها على التنفيذ، أو يجعل لها الأسبقية. علينا لهذا السبب التفتيش عما يُراد قوله من مفاهيم مبثوثة في تنصيبات رفاعي. ظاهرياً تبدو هذه الأخيرة  مفصولة عن روح الطرفة التي تلمسناها بوضوح في أعمال الأكلريايك، عبر مفردات لا تبدو من الطينة نفسها، لا الإحالات ولا المناخات ذاتها: الهيكل العظمي والدراجات الهوائية أو النارية والبرورتريه النحتي الواقعيّ والإطار المطاطيّ. هذه المفردات أو ما يشابهها لا تظهر إلا بصفتها تعبيراً عن الزائل والمؤقّت، ولعلّ الأقرب منها لروح الطرفة الموصوفة هي أعماله عن (المومياء) و(رأس الدرويش) المستلقي وحده مرةّ ومع كامل جسده مرةّ أخرى. هنا محاولة لجعل المفارَقات تتصاعد، لكي تمسّ وتصل إلى تخوم الميتافيزيقيا: مفهوم الموت، ومعنى الوجود الفيزيقي للكائن الآدميّ. وفي الحالات التي تُطرح فيها المفارَقة على نحو صريح، كما في عمله “بلد واحد… اتجاهين” الذي نرى فيه دراجتين هوائيتين مرتبطتين بحيث تصير مقدّمة كل واحدة منها بالاتجاه المعاكس، فإننا أمام مفهوم الاختلاف التام بين وعيين وفكرتين عن البلد الواحد نفسه، وهي إشارة صريحة إلى وعي لبنان بنفسه وتاريخه حسب تصوُّرين متعارِضين. أما إطار الكاوتشوك الذهبيّ فهو تأمل بفكرة الحاجيات المادية التي تصير هي نفسها القيمة الإنسانية للكائن، كما شرح ذلك بودريار ملياً في كتاباته عن المجتمع الاستهلاكي. هذه التنصيبات تتراوح بين قراءة وجودية ونقد اجتماعي وسياسيّ، قال الفنان لنا عبرها موقفه من العالم والإنسان.

 

يُحْسَب توزُّع الفنان بين التشخيصية والتجريدية والمفاهيمية (التي أودّ أن أُطلق عليها “المفاهيمية الشيئية” لأنها تعبُّر غالباً عبر الأشياء Objets عن المفاهيم، خلافاً للفن المفهوميّ الذي يذهب إلى الكتابيّ والكتابة وكل ما هو غرافيكي) أمراُ معتاداً اليوم في الفن، لأن الحدود النهائية بين الأنواع والتصنيفات الفنية والجمالية لم تعد ذات بال. ما يسعى إليه المبدعون والمتلقون في هذه اللحظة هو اللمعة البلاستيكية الصافية وحدها مهما كانت طبيعة العمل ومهما كان النوع الذي نصنّفه فيه.

 

الشهيد , حائز على جائزة متحف سرسق, رؤوف رفاعي مجموعة متحف فرحات

الشهيد , حائز على جائزة متحف سرسق, رؤوف رفاعي مجموعة متحف فرحات

 


[1] La beauté gît dans tout ce qui est l’indéfini et l’indéfinition ; voilà pourquoi les enfants, qui sont toujours imprécis, toujours sont si beaux. La beauté est dans tout inachevé.

للمزيد من أعمال الفنان رؤوف رفاعي الرجاء الضغط على الرابط أدناه

http://www.raoufrifai.wordpress.com/

خصوبة اللامرئي الكوزمولوجيّ في أعمال برندا لوي

خصوبة اللامرئي الكوزمولوجيّ في أعمال برندا لوي

 

شاكر لعيبي

 

 

إن خصوبة أنتاج برندا لوي، ووفرته، وخاصة استنادها إلى مفاهيم نظرية محدّدة، يمنح المشاهد لأعمالها الفرصة بتأمل مزدوج مترابط: جماليّ ومفهوميّ.

إذ بقدر ما أن لوي فنانة بلاستيكية plasticienne، كما تشهد سلاسل أعمالها المعروفة، فهي تطلع من فلسفة صوفية تأملية للعالم والكينونة: فلسفة الفن الآسيوية Asiatique المخلوطة بجماليات الحداثة وما بعد الحداثة بطبعتها الأوربية والأمريكية. وهذا أمر يغير قراءة وتأويل أعمالها في نهاية المطاف. وفي هذا السياق بالذات سوف يتوقف المتأمل، في الأقل، أمام سلسلتين أساسيتين لبرندا  لوي: “كتاب سلاسل الصفر  The Book of Zero Series ” 2004، و” سلسلة أزهار من السماء The Flowers from the Sky Series  ” 2004، لأنهما يبدون الأوضح تمثيلاً لهذين القطبين الجماليّ والمفهوميّ.

فالصفر أعطاها مادة تأميلة ثرية ذات جذور تاريخية “مستوحاة من المفاهيم الرياضية والفلسفية للصفر”[1] حيث كما تقول هي نفسها “تتكرر صورة الدائرة، أو شكل الصفر، بصفته رمزاً لا يمثل شيئاً ويقف أيضاً بوصفه مصدراً للطاقة الأولية ووجهةً للذاكرة في تدفق الزمن بين ما مرّ وما هو حاضر”[2]. هذا المفهوم الصفريّ للفنانة يدلّ على سعة اطلاعها التاريخية والحضاريّة وتنوعها مصادرها البلاستيكية، وهو، في الحقيقة، يمُتّ بقرابة إلى التأملات حول الصفر التي طرحها كاندنيسكي في كتابة (نقطة، خط، سطح) حيث يعتبر النقطة (.) صفراً (0)، ذاهباً إلى تعريف النقطة على أنها : “كائن غير مرئيّ، وينبغي لذلك تحديدها كشيء غير ماديّ”[3] ، مضيفاً: “ومن وجهة نظر مادية فالنقطة تماثل الصفر”[4].  وفي الحقيقة فإن تعريفه للنقطة مأخوذ حرفياً من تعريفات الرياضيين والفلاسفة المسلمين كالخوارزمي وأخوان الصفا، ذلك أن النقطة (.) على شكل الصفر (0) هو اختراع متأخر تاريخياً وليس يونانياً على الإطلاق. هنا نرى نوعا من التماثل بين التأملات القديمة، الشرقية والأسيوية، بشأن قضايا الوجود والكون والإنسان. لكن الفنانة تستلهم كذلك الفيلسوف الكونفوشي الصيني منسيوس Mencius (عاش بين السنوات 380-289 قبل الميلاد)، خاصة مفهومه حول الـتشي (ch’i) التي هي الطاقة الأولى للكون. لقد افترض الصينيون نوعين من التشي، الفظ والمرهف. البدن للأول والقلب للثاني. كان منسيوس يتبنى  مفهوما أخلاقياً للحق، يملأ المسافة بين الأرض والسماء، تُمَوْضِعُه الفنانة في فضاء معاصر. في هذا الفضاء تتمركز العناصر التشكيلية لـ “سلسلة كتاب سلاسل الصفر” حيث تظهر فيها تكوينات دائرية لعلها إحالة إلى الكونيّ، وكتابات خطية صينية، وطبيعة paysage غامضة، وتوهجات لونية ساطعة، وخرائط ورموز آسيوية، وكولاجات، وكلها في إطار تنصيبة Instalation كبيرة مستطيلة تتكون من لوحات صغيرة متجاورة بصفوف طولانية توجد بعض الفراغات في صفوفها، دلالةً على اللاكتمال الرمزيّ.

لكن هذه الكاراتوغرافيا تظهر في أعمال أخرى لبرندا لوي بصراحة وكأنها أحالة إلى الكون الكونفوشيوسي، في حين أنها في معرضها Rat Fest”Michael Himowitz Gallery , January 1999 و سلسلة الحديقة “Garden Series ” تعود إلى التصوير على محمل اللوحة التقليدية، وهي تغترف هذه المرة، بشكل بارع، من فن الخط الصيني وتجعل من طابعه البلاستيكي الداخلي عنصراً تشكليلياً يزيح المقروئية lisibility (مثلما فعل بول كليه مع الخط العربي في حقبة ما من عمله)  وتضعه في إطارها الكوزمولوجي ذاته. إن عودتها إلى الخط الصيني ملحوظة في أكثر من سلسلة وعمل، ولعل ارتباطها العاطفي بالخط يمت إلى ارتباط قوي بالثقافة الصينية التي تمنح الخط دوراً بارزاً، وكذلك إلى تشبُّعها بفن الخط عبر والدها الخطاط. لكن فهْم السبب العميق الذي يدعوها  لاستخدام فن الخط الصيني في مشروعها التأمليّ، يستلزم فهم المبادئ الفلسفية التي يستند إليها هذا الخط، فمن بين ستة قوانين له يُعتبر “مبدأ التعبير عن الحيوية الإيقاعية أو الإيقاع الروحيّ في حركة الحياة” عبر الخط أساسياً، لأنه يعني أن على الخطاط أن يذهب إلى ما وراء المظهر البسيط للعالم ويكتشف الإيقاع الكونيّ الكبير. وهنا يطابق عمل الخط مع عمل الفلسفة الصينية التقليدية المهمومة باكتشاف القوانين الروحية السامية الشاملة التي تطوي الكائن وفعله في حركة الوجود.

إن سلسلة الحديقة “Garden Series” تخرج من الهواجس المفهومية نفسها التي تخرج منها  “سلسلة أزهار السماء”، لأنهما يتأملان في دورة الحياة والموت. سلسلة الأزهار مستلهمة من عبارة شهيرة لماو، وتود الانهماك بالمشكلات السوسيولوجية والثقافية الراهنةـ لكنها قبل ذلك كله، تستلهم، من باب خفيّ، المفاهيم الكوزمولوجية التي يطلع منها التصوّر الصينيّ لرسم الطبيعة shanshui وعناصرها، ثم وضعها في سياق الفن المعاصر.

في رسم الطبيعة التقليدي تختلط المفاهيم القادمة من لي جنغ Yi Jing  والطاوية. المنظر الطبيعي هو أولا الجبال والماء اللذان يجسّدان الوحدتين الكوزمولوجيتين: الجبال تطابق مبدأ اليانغ yang والماء مبدأ الين yin. إن أزهار برندا لوي، مثلها مثل رسم الطبيعة الصيني التقليديّ، ليست محاكاة ومشابهة حرفية لما نراه في الطبيعة، لكنها تعبير عن إحساس وأفكار معينة عبر الطريق التصويري. كان بعض الرسامين الصينيين يرسمون، لهذا الهدف، العناصر الطبيعية حتى من دون أن يشاهدوها، وهو نفس الانطباع الذين يتكون لدينا أمام أزهار برندا لوي. لأن هذه الأزهار هي تأملات بالأحرى، هي أفكار وهي مشاعر قبل أن تكون نقلاً أميناً لزهور معينة.  بل من الممكن القول أن “أزهار السماء” هي حياكة بصرية للامرئي، لازدهار روحي داخليّ.

في هذه السلسلة أيضا ذات التقنيات المختلطة والألوان المائية، ثمة عودة إلى مفاهيم عريقة مخصوصة بشأن الفن، من دونها لا يمكن تماماً الاستمتاع بالجماليات المعاصرة التي تشغل بال الفنانة.

يمكن للمرء أن يرى بسهولة أن “التزاوج” البارع بين التقاليد الجمالية والمفهومية، القديمة والحديثة، الآسيوية والغربية، المتعارِضة شكلياً لكن المهمومة بالمسائل نفسها جوهرياً، هو ما يشكل في نهاية المطاف جوهر الفاعلية البلاستيكية لبرندا لوي.

 


[1] Inspired by the mathematical and philosophical concepts of zero.

[2] reiterates the image of a circle, or the figure zero, as a symbol that represents nothing yet also stands as the source of primary energy and aspects of memory in the flow of time between what has passed and that which is present.

[3] ص17

[4] ص17

لمشاهدة المزيد من أعمال الفنانة الرجاء الضغط على الرابط أدناه 

http://www.brendalouie.wordpress.com/

التحويل الخيميائي في أعمال فانيسا ستافورد

التحويل الخيميائي في أعمال فانيسا ستافورد

شاكر لعيبي

 يمكن قراءة أعمال فانيسا  ستافورد من زاويتين منهجيتين متداخلتين:

أنها نوع من الاستشهاد Citation التشكيليّ.

أنها نوع من التحويل  Transmutation الخيميائي لتلك الاستشهادات.

 

فانيسا ستافورد , مجموعة متحف فرحات

فانيسا ستافورد , مجموعة متحف فرحات

إن الاستشهاد في الحقل التشكيلي يمكن، بشكل عام، أن يستند كلياً أو جزئياً إلى مرجع مباشر هو عمل تشكيلي آخر. في تاريخ الفن الحديث هناك أمثلة كثيرة لذلك، منها لوحة رينيه مارغريت “منظور 2” التي استشهدت بلوحة مانيه “الشرفة” 1869 الذي بدوره استشهد بلوحة غويا  “Majas au balcon”. في الفن المعاصر أيضا شهدنا الكثير من الفنانين الذين يعودون إلى أعمال قديمة معروفة كمرجعيات لهم. أنهم يقومون باستشهاد دون الاستلهام الفعلي لتلك المرجعيات لكن بإدماجها في عملهم. الاستشهاد من جهة أخرى هو عنصر من عمل فني يستعيد موضوعاً أو تقنية سابقة، ليصير في نهاية المطاف نوعا من غمزة (clin d’œil)، وليس نسخة مطابقة لعمل سابق.

استشهادات فانيسا ستافورد المتنوعة، الواعية وغير الواعية، بفنانين سابقين مدموجة كلها في عمل فرديّ طريّ وجديد. إنها تذكّر المتلقي، في آن واحد، بأعمال هنري روسو، بالفنانين الأمريكيين الواقعيين المناطقيين régionalistes سنوات الثلاثينيات، بالقليل من الانطباعية والقليل من التعبيرية، وفيها تلميحات إلى حلمية الطيران لدى شاغال.

يقوم الفنان الذي يستشهد، كما تفعل فانيسا  ستافورد، بدور المُرتجِل والمؤوِّل، واضعةً ما تستشهِد به في سياقها الشخصيّ، مانحة إياه معنى ومفهوماً خاصاً بها، في لوحات مختلفة ومستقلة عمن تستشهد بهم. يتعلق الأمر باستراتيجية بلاستيكية تستخرج الفردانية من حيث نعتقد أنها “تقلد” الأعمال الفنية الأخرى.

طريقتها في رسم الطبيعة، خاصةً أسلبة الأوراق وتداخلها وطريقة معالجتها لونياً تذكّر المرء في جميع لوحاتها التي تظهر فيها النباتات بأعمال روسو ، مع ميل لتبسيط تعقديداتها خلافاً لهوس روسو بذلك. أحيانا تذكر بزخرفية ماتيس النباتية. إننا نرى ذلك مثلاً  في لوحاتها (Vannessa Art) و(African History) و(Fantasy) و(Lonely) وغيرها.

الحلم Fantasy, فانيسا ستافورد, مجموعة متحف فرحات

الحلم Fantasy, فانيسا ستافورد, مجموعة متحف فرحات

بالنسبة لمواطنيها يتوجب التذكير أن أعوام الثلاثينيات من القرن العشرين كانت فترة ردة فعل وتمرّد ضد الأساليب القادمة لأمريكا من أوربا. إن واقعيين مدينيين réalistes urbains مثل بن شان Ben Shahn وريجينالد مارش Reginald Marsh ووليم غروبير William Gropper كان يطرحون في لوحاتهم ورسوماتهم الشروط البشرية والتحولات الاقتصادية التي تلت مباشرة أزمة عام 1929 الشهيرة. بينما كان رسّامون مناطقيون مثل غرانت ود Grant Wood وتوماس هارت بينتون Thomas Hart Benton وجون ستيوارت كوري John Stewart Curry يستلهمون الحياة وفلكلور الغرب الأوسط الأمريكي والحياة الريفية. في أعمال فانيسا  ستافورد شيء من أساليب ذلك كله بطريقة ملتوية ومعقدة، كما في عملها (Abu Ghraib , Cheney – Ramsfield) الذي يستعيد روح مشاهد المسرح الاستعراضية التي رسمها ريجينالد مارش نهاية الثلاثينيات، بداية الأربعينيات من القرن الماضي. لكن خلافاً لمواطنيها يوجد في أعمال فانيسا  ستافورد الكثير من المرح والاندفاع الروحيّ والعفوية التي لا نلحظها إلا نادراً في أعمال مواطنيها المذكورين الخارجين في شروط تاريخية موسومة بالكآبة التي يمكن تلمُّسها بوضوح في أعمال غرانت ود.

هناك مؤثرات واستشهادات أخرى: في عملها (Bluebeard) وعملها (Bell Jar) ذكرى بعيدة من أعمال ما بعد الانطباعيين. في أعمال أخرى ثمة محاكاة للطبيعة التي رسموها وتذكير بملمس لوحاتهم. في بعض اللوحات استلهام من تعبيرية ماتيس المرحة وألوان التعبيرية الألمانية الجامحة، دون أن تكون في ذلك كله ضمن الفهرست التشكيلي نفسه على الإطلاق.

هنا تقع منهجية التحويل Transmutation المذكورة التي تصير أعمال فانيسا ستافورد عبرها نوعاً من الخيمياء التي تُنتِج حجرَ الفلاسفة pierre philosophale، حيث تتحوّل الأعمال المستشهَد به المفترَضة تحولات جديدة، مثيرة وشخصية وتختفي منها تقريباً آثار المستشهَد بهم، فلا يبق سوى الهاجس الفردي للفنانة. فإن استخدامها لمرجعيات صور سجن أبي غريب تختلف جذرياً عن الطريقة التي استخدم فيها بوتيرو مثلاً هذه المرجعيات نفسها. لقد وضعتها في إطار الإدانة الواضحة للحرب على العراق، بينما استخدمها بوتيرو، ومعه شريحة كبيرة من الفنانين الأوربيين والأمريكيين في سياقٍ لا علاقة له بالضرورة بمثل هذه الإدانة المخصوصة. لقد وجد الفن الأوربي والأمريكي في مرجعيات صور أبي غريب جميع العناصر التي تعنيه: الجسد العاري المتكوم فوق بعضه الذي يجد بدوره في الذاكرة التشكيلية الأوربية مراجعه منذ الإغريق، النزعات السادية والمازوشية التي درسها التحليل النفسي منذ نهاية القرن التاسع عشر، جميع أنماط الصور الدينية القروسطية المتعلقة بالسحرة ومحاكم التفتيش أو الصلب المسيحي (مثل صورة السجين العراقي المغطي بالأسود مفرداً ذراعيه على شكل صليب) التي تحتل في ذاكرة تاريخ الفن حيزاً واسعا للغاية. كل هذا وغيره، من دون نفي نوايا الاستخدام الحسنة، قد قاد إلى استخدام الصورة بعيداً جداً عن سياقها، وأدرجها لصالح اهتماماته. بعبارة أخرى لصالح فكرته عن الصلب وليس عذاب المصلوبين العراقيين.

في عمل فانيسا  ستافورد لا يوجد، من جهة شيء، من هذا، ومن جهة أخرى لم تختفِ منه روح الطرفة، بل حضرت فيه أسلوبياً لمسة كاريكاتورية نقدية خلافاً للصرامة بل التجهّم الذي استخدمت به الصور ذاتها في أماكن أخرى.

 

اللحية الزرقاء , فانيسا ستافورد, مجموعة متحف فرحات

اللحية الزرقاء , فانيسا ستافورد, مجموعة متحف فرحات

مخيلة فانيسا ستافورد حلمية، طرفوية ولُعُبية رغم أنها أقرب للمخيال الشعبيّ في حالات كثيرة. إن حضور الحَمَل، هذا الحيوان الإنجيلي، قد يجعل المرء يستعيد حضوره في الكثير من أعمال شاغال عن عيد الفصح Pâque، لكنه حاضر هنا بعيدا عن أي مرجعيات إنجيلية. إنه يحضر جوار العديد من الحيوانات الأخرى كالفيلة والطيور والقطط وأبي الهول وغيرها التي تصير، مع العالم النياتي والكائن البشري الملوَّنة كلها ببهجة وفرح ونشوة، جزءً من احتفالية صافية بالسعادة وبالعالم.

في أعمال فانيسا ستافورد يوجد من دون شك شيء من البوب أرت، أو استعادة للتصاوير الشعبية الجماهيرية الأمريكية، والرسوم البدائية لكائنات خرافية نصف مجنحة وكائنات مزوّقة بإفراط متعمّد ومكياج مسرحي بلخطات حمراء على الخدود ومبالغة مقصودة، وتنفيذ للعمائر والمنازل بروح مُؤسْلَبة طفولية ، تمارِس الفنانة عبرها بقوةٍ ومن جديد، عملية التحويل الموصوفة، حيث تتمسك لوحاتها بخصائص تُعزى لمنتجتها في المقام الأول.

هذه المخيلة متعدّدة المصادر، لكن المصادر المتيسّرة للجمهور والمستلهَمة من ثقافة الجمهور، لن تجعل أحداً يستغرب أن تعمل الفنانة بتنفيذ رسوم متحركة وكتب للأطفال. في لوحاتها أثر من اللعب الطفوليّ، في التلوين كما في المخيلة، لكن فيها أيضاً حلم الكائن الناضج بالانسلاخ من الواقع الصارم والمرّ، والرغبة الجامحة بالحب الكامل.

يقوم التلوين بالألوان المائية والغواش بتصعيد عملية التحويل، لكي تنفصل الأعمال عن مرجعياتها المفترَضة وتحتفظ في نهاية الأمر بالوحدة الداخلية التي تلتم الفنانة في نواتها، وتنام أخيراً في روح الغابة. ألم تسمي أحد أعمالها “حلم في الغابة The dream in the Jungle”؟.

فانيسا ستافورد مجموعة متحف فرحات

فانيسا ستافورد مجموعة متحف فرحات

 

 لرؤية المزيد من أعمال الفنانة الرجاء الضغط على الرابط أدناه 

http://vanessastafford.wordpress.com